لي قصتان مع العقيد معمر القذافي. واحدة نشرت على الملأ وتابعها عدة ملايين من البشر،
والثانية وئدت في المهد ولم يسمع بها سوى شخص واحد فقط.
وقد خطر لي أن أروي القصتين بعدما قرأت ما نشرته جريدة «الشروق» في عدد 2 سبتمبر بخصوص مدائح نفر من المثقفين المصريين لمواهب العقيد حين كان يتربع على عرش ملك ملوك إفريقيا وعميد الحكام العرب وقدر ليبيا المحتوم.
وإذا كان الكلام الذي أعادت «الشروق» نشره يبعث الآن على الخجل والضحك بقدر ما أنه يفضح أولئك المثقفين ويكشف ضعفهم وتهافتهم أمام ذهب العقيد وسلطانه، إلا أن الذين شاركوا في الفضيحة ينتمون إلى عدة أقطار عربية، وليس من مصر وحدها.
إذ منهم سوريون ولبنانيون وجزائريون أيضا. وكلهم كانوا ــ وبعضهم لا يزال ــ من نجوم الثقافة والأدب في العالم العربي.
وقد جمعت شهاداتهم في كتاب ضخم في نحو 900 صفحة أصدرته قبل ثلاث سنوات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام بليبيا.
خلاصة القصة الأولى كالتالي:
في آخر أيام شهر ديسمبر من عام ٢٠٠٤، وفي مناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة، دعتني قناة الجزيرة مع اثنين من المثقفين إلى أمسية قيل لنا إن العقيد القذافي سيكون ضيفها.
واقترح علينا أن نجري حوارا معه في تلك الليلة حول ما جرى خلال العام وتوقعات العام الجديد، ولما وجدت رفيقيَّ في اللقاء الذي يبث على الهواء مباشرة يتحدثان معه بلغة دبلوماسية حذرة، وكأنهما مبعوثان رسميان، فقد قررت أن أوجه إليه سؤالا صريحا لا حذر فيه، وقلت:
يا سيادة العقيد، أنت تصالحت مع الأوروبيين والأمريكيين هذا العام (كنت أقصد تسوية تعويضات حادث لوكيربي وتسليم الوثائق والأجهزة ذات الصلة بالمشروع النووي إلى المخابرات المركزية الأمريكية)، فمتى تتصالح مع الشعب الليبي؟
فوجئ العقيد بالسؤال، كما فوجئ مقدم الحلقة الزميل علي الظفيري، الذي أشار إلىَّ بيده من تحت الطاولة لكي أهدئ الجو.
تظاهر القذافي بالثبات ورد قائلا:
يا بني أنت لم تقرأ الكتاب الأخضر، ولو استوعبته لوجدت أن المجتمع الليبي حقق نقلة كبيرة في حياته بعد ثورة الفاتح.
وبعدما أفهمني أنه يتابع بعض ما أكتبه، ثم واصل حديثه عن إنجازاته، وظل يخاطبني بين الحين والآخر قائلا: يا بني.
ولا أذكر لماذا تطرق إلى موضوع العروبة التي انتقدها واعتبرها دعوة عنصرية، ربما لكي يبرر تحولاته الأفريقية،
وفي نهاية كلامه نصحني بأن أقرأ الكتاب الأخضر، وأن أزور ليبيا لكي أرى التحولات التي حدثت فيها في ظل الثورة.
حين جاء دوري في الرد، وجدت علي الظفيري يتوسل إلي بعينيه، وبإشارة يده أن أمرر الحلقة بسلام، ولكنني طمأنته بسرعة وعبرت للقذافي عن شكري له على مخاطبتي باعتباري ابنا له. وأضفت:
«إنني أدرك أنك أكبر مني مقاما، لكنني أكبر منك سنا»،
ثم قلت إنني قرأت الكتاب الأخضر ثلاث مرات، ولم أخرج منه بشيء مقنع، وإنني زرت ليبيا ووجدت أن أحلام الليبيين معلقة على اللافتات، ولكن لا شيء منها تحقق على الأرض.
بعد ذلك، صححت له معلوماته عن العروبة قائلا:
إن العروبة ليست عرقا ولا عصبية، ولكنها تقوم على انتماء ثقافي أرقى يرتبط بالتمكن من الفصحى، حيث يعدُّ كل من نطق العربية عربيا ينتمي إلى الأمة.
واستشهدت بالحديث النبوي الذي يقول ما معناه ليس العربية منكم بأب وأم، ولكنه اللسان. ثم ذكرته بأن أئمة اللغة وكبار النحاة وواضعي القواميس كان أغلبهم ينتمون إلى أصول أعجمية وليست عربية.
لم يرد الأخ العقيد وتطرق إلى أمور أخرى، لكنني كنت قد قلت ما عندي على شاشة الجزيرة وأمام الملأ، وكانت مشكلتي بعد ذلك أنني لم أنم طوال الليل بسبب اتصالات التشجيع الهاتفية التي تلقيتها من المشاهدين، وأغلبهم من الليبيين المشتتين في أرجاء الكرة الأرضية.
وعلمت لاحقا من السفير المصري في طرابلس آنذاك محمد رفاعي أن أحد موظفي السفارة كانت في اسمه كلمة «هويدي» خشي أن يتعرض للأذى بسبب ما قلت، فاختفى في بيته ولم يخرج منه لمدة أسبوع بعد بث الحلقة.
قصتي الثانية كانت قصيرة، وخلاصتها أن القذافي عنَّ له أن يؤلف مجموعة قصصية صدرت في كتاب بعنوان
«القرية القرية.. الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء»،
ولا أعرف الملابسات التي جعلت رئيس هيئة الكتاب آنذاك الدكتور سمير سرحان أن يخصص إحدى ندوات معرض الكتاب لمناقشة المجموعة من القصص
. وبطبيعة الحال فإن حشدا من الإعلاميين والمثقفين حضروا الندوة وبعضهم اشترك فيها. وحينذاك سألني صحفي ليبي من العاملين في صحيفة «الزحف الأخضر» على ما أذكر، عن رأيي في قصص الأخ العقيد، فقررت أن أتخابث عليه، وقلت إن المجموعة المنشورة كشفت عن الموهبة الأدبية الفذة للعقيد، التي حجبها انشغاله بالعمل السياسي طوال الوقت،
لذلك فإنني أتمنى عليه ألا يضحي بها، وأن يفسح المجال لاستثمار إبداعات موهبته، بأن يتفرغ للأدب ولا يضيع وقته في أعباء السياسة ومشغولياتها التي تقتل تلك الموهبة، ورجوته أن ينقل هذه الرغبة على لساني في الجريدة.
سجل صاحبنا الكلام بحسن نية وانصرف. ولم يظهر للحوار، أثر في الجريدة بطبيعة الحال، كما أنني لا أعرف ما الذي جرى له
فهمي هويدي
.
...................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق