بسم الله الرحمن الرحيم
جرِّد الحجة من قائلها، ومن كثرة القائلين وقلّتهم بها، ومن ضغط الواقع وهوى النفس، واخلُ بها والله ثالثكما، تعرف الحق من الباطل .
لن يُنصَف الحقُّ إلا إذا كان القلب خالياً عند الكتابة من كل أحدٍ إلا من خالقه سبحانه، وكم من الأشخاص يجتمعون في ذهن الكاتب والقائل عند تقييده للحق فيُصارعونه ليَفكوا قيده، فيضيع الحق، ويضيع معه العدل والإنصاف.
يَظنُّ كثيرٌ من الناس أن الفتنة هي الإثارة والهرج، ويُغفلون عن أن أخطر أنواع الفتنة قلب الحقائق والمفاهيم والسكوت عن ذلك قال تعالى: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور} ومن يجيء بالحق ويُظهر أمر الله فهو دارىء للفتنة، ومطالبته بالسكوت درءاً للفتنة هو الفتنة.
تناقلت وسائل الإعلام كلاماً منسوباً لعدد من العلماء بجواز عمل المرأة في مجلس الشورى ومجالس البلديات، يحكون الجواز بإطلاق، ويُقيدون ذلك بــ (الضوابط الشرعية) دون أن يذكروا واحداً منها، ومَن الضابطُ لها، وما وجوه الضبْط في زمنٍ كثُرت فيه آراء الشذوذ، والإعلام يحكي إذا اشتهى الشذوذ إجماعاً، وإذا كره الإجماع حكاه شذوذاً، وهذا من الفتنة التي حُذرنا منها.
يُروى في المسند من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ، كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ )).
وكلما ارتفع الشيء زاد الرائون له وكُلما دنا قلّوا، ولذا شبّه النبي العالِم بالنجم في السماء لأن أثره ينبسط على عموم الأرض ويهتدي به كلُّ من يراه، وإن من أخطر الأحوال أن تتحوّل هداية العالم من هداية أمة إلى هداية فردٍ أو أفراد في الأرض، ويتيه عامة أهل الأرض به .
والعالم الصادق إن حُجبت عنه العقول كما تَحْجب السحبُ النجمَ عن الأعين بقيَ مكانه، فلا يبحث عن الأعين ليظهر لها حيث تتجه، وإلا فهو فاقدٌ لهويته من نجم إلى شهاب يُضيء لحظة ليُمتِع الرائي له ثم ينتهي.
إن صناعة رأيٍ سائدٍ وتسفيه غيره سنّة قديمة يملكها من أخذ بأزمة المؤثرات على العقول، وهي مجتمعة اليوم في الإعلام، حتى إن القاريءيظن أن الأمة مجتمعة بين ألواح الصحف، بينما هم جُمِعوا كما تُجمع أحصنة الشطرنج بيدٍ واحدة على لوحٍ واحدٍ، حتى لا يكاد يجد الإنسان محلاً لحرف يضعه في خلاف ما يرون ولا يملك إلا كتابة رأيه منفرداً ويرمي به كالغريب فإن كتب قيل له: (عَبْر الطرق المأذون بها)، والطرق المأذون بها مغلقه، وقد قال فرعون للسحرة لما آمنوا بموسى: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} وأين من يقبل إذنهم لو استأذنوا للإيمان، وإن آمنوا بلا استئذان عُوقبوا على عدم الاستئذان!
وأما الحديث عن عمل المرأة في الشورى فينبغي تأمل هذه المقدمة قبل الحديث فيه وهي:
أن الحكم على شيءٍ ما يَنبغي أن لا ينحصر على ذاته متجرداً من لوازمه، وأشباهه، والقرائن المحتفة به، فإذا انحصر على ذاته، فهذا مضاد لأصل العقل الصحيح، فإن الأشياء عقلاً تتشابه في نفسها وتختلف حُكماً للوازم وقرائن ونظائر تجعل العقل يحترز في موضعٍ ويُحجم في آخر، وكلاهما يُشبه الآخر لقرائن اقتضت ذلك، والمسير على خطٍ واحد في المتشابهات من خصال البهائم التي لا تحكم إلا على ما في حدقة العين وما خرج عنها فلا يعنيها بشيء، فتهرب الطيور من الإنسان ومن تمثاله فالصورة واحدة، وهذه النظرة ليست نظرة عقل صحيح فضلاً عن فقيه بصير.
وحينما يُستفتى عالمٌ في حكم حد سكينٍ لذبح أُضحية هل تُجزيء في قطع الوريد والودجين وهو يعلم أن السائل يسأل عن حد السكين ولكنهيقتل بعقبها، فإجابتة بالجواز ليس من مواضع الأمانة لو كانت في مال الإنسان فكيف في دينه .
ونحن اليوم في زمن متناقض، فالنظر إلى استشارة المرأة بضوابطها الشرعية متجرداً عن أي قرينة تحتف بذلك قصورٌ، فما يحتاج إلى ضبط وحدٍّ أشياء منها :
الاختلاط، وولاية المرأة وبرزوها في المحافل الداخلية والخارجية، وسترها وحجابها، وغير ذلك، فهل الجهات الرقابية والضابطة في الحياة اليوم تُشَدِّد في ذلك أم تتراخى؟! حتى نجعل ضوابط شورى المرأة وبلدياتها قابلة للتنفيذ، أم هي كلّ يومٍ تفكُّ قيداً من قيودها، واستمرار العالِم يمد فتواه بضوابطها، وهو يرى تلك الضوابط بعينها يزداد جزرها انكماشاً في الحياة من القصور في السياسة الشرعية وفقه المقاصد، فالجهات الرقابية التي تُطبِّق الضوابط الشرعية لعضوات مجلس الشورى هي من يُطبق ضوابط ابتعاث ثلاثين ألف امرأة في جو مختلط بل وتشجع على سفورهن، وكذلك في المستشفيات واختلاط بعض الشركات فما هو الورع الذي يحمل على ضوابط بضعة نساء في الشورى ويُهدر آلاف منهن، والله يقول: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} والاعتبار رد الشيء إلى نظيره ثم يصدر العالم بحُكم على ما بين عينيه فيضبط الشاهد على الغائب، والله أمر بإحكام الحُكم الحاضر على الغائب المعلوم كثيراً في القرآن بقوله {أفلم ينظروا} {أولم يروا} وغير ذلك كثير، إشارة إلى ضعف حكم من صدر برأيٍ على مُشَاهَد دون نظائره.
هذا كله مع التسليم بإقرار الجهات المنفّذة بتلك الضوابط السابقة، والمُشكل أيضاً أن تلك الضوابط المذكورة لم يُشَر إلى شيء منها .
إن وجود نصٍ عند عالمٍ في مسألةٍ لا يسوغ أن يرمي النصَ على كل طالبٍله، بل ينبغي على العالم سبر الحال ومعرفة الأشباه والقرائن، وإلا ففتواه تفريط، وقد سأل رجل أحمد بن حنبل قال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي ؟ قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر بن الخطاب أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته، قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه.
وهذا أمر متقرر في كلام العلماء في ضوابط الفتوى وأهلية المفتي.
وإن حال المجتمع وأحوال المرأة في المجتمع لا تحتاج إلى نظر طويل حتىتُنزل النصوص عليها فعُرى الضوابط المعقودة تُنقض، وما لم يُعقد لا يُفكر بضبطه.
والفتوى لا يجوز أن تنطلق من النص فقط دون النظر إلى محل تنزيلها، والحال عند التنزيل وبعده، وإلا لم يكن ثمة حاجة إلى وجود عالمٍ يسبر وينظر ويحرر.
وأما بشأن التفصيل في عمل المرأة في مجلس الشورى فعلى ما يلي :
أولاً: أصل استشارة المرأة في ذاته ليس من المباحث في التحليل والتحريم لكونه يقع في الزمن الأول بداهة ولو لم يُنقل، ولكن الحاجة في الكلام على صفته وموضوعه ووقته ونوعه ومكان أخذه، وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وغيرهم، في قضايا مخصوصة وفي أحوال معينة ومن نساء قريبات معروفات فالنبي استشار زوجته أم سلمة وعمر استشار بنته حفصة.
ثانياً: لم يَنْصب النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء ولا أمراء الإسلام في القرون المفضلة امرأة للشورى في قضايا الأمة مع كثرة الحوادث ومرور القرون والحروب والفتن، مع أن أول مجلس للشورى كان في خلافة عمر كما روى البخاري قال ابن عباس: كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً أو شباناً.
ثالثاً: استشارة المرأة فيما يتعلق بشأنها كما استشار عمر حفصة جائز، من غير تَنْصيب في قضايا العامة ولا الرجال، وأن تكون الاستشارة من الحاكم أو نائبه، بالسبل التي تُجيز الشريعة التواصل بها، وأما نصبها يتلقى منها الناس الرأي وتَسْتضيف وتُستضاف للرأي العام فهذا لا يجوز في قول فقيه، وهذا يُنزّل على عضويتها في مجالس الشورى والبلديات.
وأما استشارتها في أمور العامة العارضة للاستئناس من غير تَنْصيب لتلك القضايا على الوجه والصفة المشروعة كالزوج من زوجته والأب من ابنته، والبعيد من البعيدة بضوابطه وصوره المحدودة، فهذا جائز، لأن النبي إنما شكى لزوجته أم سلمة عدم أخذ الناس بقوله فأشارت عليه لا بإنشاء رأيٍ وإنما كيف يستجيب الناس لرأيه السابق الذي أخذه وقضى الأمر فيه، ولم تكن بارزة للناس ففي البخاري: قال عمر: (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يانبي الله أتحب ذلك أخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيلحقك )).
رابعاً: إن نصب امرأة للشورى لقضايا العامة وفي جميع الشئون يلزم من ذلك محظورات شرعية من أظهرها :
1- أن في هذا نوع ولاية عامة بهذا العموم، خاصة في نظام يأخذ بالتصويت الغالب وتُحسم الأمور به مهما كان نوع القائلين به، وقد قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء} وهذا في قوامة الرجل على زوجته فكيف بالقوامة العامة،والله لم يجعل للمرأة ولاية على زوجها لحِكمة يُدركها المتأمل لخصائص الجنسين، ومن أظهر الحكم رقة الطبع والضعف الفطري في الشدائد، قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}، أي يضعُف فطرة عن المحاججة في النزاع هيبة وخجلاً، وهذا أمر يُعرف فطرة ولو كابرت فيه بعض النفوس فيُنكرونه عناداً باللسان ويُثبتونه عملاً فالنظام الغربي بجميع تشريعاته ومع أن النساء في الدول أكثر من الرجال عدداً ويُطلقون مساواة الجنسين من جميع الوجوه إلا أن نصيب النساء من الولايات واقعاً لا يُساوي 5%، يجرون على الفطرة ولو أنكروها {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً}.
والضعف لا تختص المرأة به، فلو وُجد في رجلٍ كذلك لما جاز توليته، فروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً, وإني أحب لك ما أحب لنفسي, لا تتأمرن على اثنين, ولا تتولين مال يتيم )). فلا يُناسب تولي رقيق الطبع شأن العامة فيضعف رأيه تبعاً لرقته وضعفه خاصة في الاستشارة والرأي في فتنة حرب وأزمة اقتصاد فيضعف أو يبكي فتضعف هيبة الدولة أو يصدر قرار بعاطفة لا بعقل.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لن يُفلح قوم ولو أمرهم امرأة )) وقد نص على الإجماع على هذا الحديث ابن حزم والجويني وابن تيمية وغيرهم، وقد فهم أبو بكرة وهو صحابي جليل أن معنى الحديث على جميع الولايات ولو قيادة صُلح بين فئتين.
2- أن الاستشارة العامة يلزم معها المخالطة بلا ريب، وذلك أن الاستشارة لا بد أن تصدر عن سبر للموضوع المستشار به، ويلزم من ذلك من سفر داخلي وخارجي ولقاءات خاصة وعامة قدراً لا يُحصى، وإذا كانت المسئولة عن تعليم النساء في البلاد وهي على نساءٍ، ينشر الإعلام لها أسفاراً داخلية وخارجية مع رجال، هذا وهي على شأن نسائي خاص، فلم يتم ضبطه شرعاً، فكيف يُضبط ما هو أعم منه، واختلاط المرأة بالرجال في العمل والتعليم محرم باتفاق المذاهب.
وإنما جعلت شهادة المرأة بشهادة رجلين لأنها لا تختلط بميادين الرجال فما لم تُخالطه تنساه لو رأته مرة، بخلاف حال الرجل.
خامساً: أما الاحتجاج باستشارة النبي لأم سلمة على تنصيبها للشورى فقياسٌ مع الفارق، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما استشار زوجته في استجابة الناس له لا في أصل رأيه ثم إنها في خدرها وأعطته رأيها لنفسه، ولم ينصبها لعموم المسلمين، ففي البخاري قال عمر: (( دخل النبي على أم سلمة )) أي وهي في خيمتها وخيمته، ولو صح التعميم لكان كل فعل يفعله النبي مع أزواجه جاز أن يفعله الرجال مع النساء، ولجاز أن يُصنع مضمار سباق للرجال والنساء لأن النبي سابق عائشة، وقد كان النبي في حَضَرٍ ونساؤه في حَضَره أكثر، وهوفي حال إقامته أكثر من حال سفره، ولم يُعرف عنه أنه نصب امرأة للشورى والله قد أنزل عليه: {وشاورهم في الأمر} يعني أصحاب الأمر العام فوقع منه ذلك على الرجال، وأما قضايا الأعيان العارضة من أزواجه وشبههم فهذا يقع ولا بأس، والآية نزلت وأقرب الناس إليه أزواجه وكل يومٍ عند واحدة منهن.
ثم إن أم سلمة وأمهات المؤمنين على شيء من الحجاب وتشديد الله عليهن حتى إنه يحرم عليهن بروز أشخاصهن بلا حاجةٍ، أكثر من غيرهن، وأَخْذُ حالٍ وَقَعَتْ من النبي مع زوجة له، ثم قطع الواقعة عن سياقها وصفة المستشار والمستشير وإنزالها على كل صورة، ومع كل أحدٍ، ليس من موارد الاستنباط الصحيح، وهو كقطع عرجون نخلٍ وغرسه في الأرض ليُنبت نخلاً لأنه مقطوعٌ من نخل، وكيف يُنبت وقد نُزع من سياقه، وغُرس في غير أصله .
وأما استشارة عمر لحفصه فهي ابنته فقال: (( كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس الجيش أكثر من هذا )). ؛
وأما ما جاء عن عمر أنه يستشير النساء بإطلاق، فرواه البيهقي بإسناد لا يصح، فمحمد بن سيرين لم يُدرك عمربن الخطاب.
سادساً: من قرأ ما نُشر في وسائل الإعلام من مقالات وفتاوى وجد أن تعليل تنصيب المرأة في الشورى والبلديات (إنصافاً للمرأة) (ومنعاً لتهميشها) والمعروف عقلاً وشرعاً أن الاستشارة تُبنى لمصلحة المستشير والعامة وليس لمصلحة المستشار ولا يجوز أن تُبنى مصلحة الشورى لدفع تهميش المستشار، فالاستشارة العامة ليست لجلب مصلحة فرد أو جنس، وهذا يكون في الحقوق الخاصة وليس في الأمور العامة، وهذا يدل على أن النّفَسَ في تنصيب عضوة شورى نُظر إليه من جهة غرس مباديء فكرية ورمزية مجردة.
سابعاً: أن السياسة العقلية في الاستجابة لضغوظٍ خارجية تجزم أن من الخطأ أن تستجيب لضغطٍ أو إكراهٍ ممن ترى أن قائمة ضغوطه لا تنتهي إلا بانتهاء شرعتك، فالغرب لن يوقف ناقوس إزعاجه للتنازلات، وإنما هو يبدأ مع كل دولة بحسب سقفها الحالي، فالضغوط التي تُمارس على مصروالشام في السياسة والأخلاق هي على ذات المقدار على هذه البلاد ولكن تختلف حُدود السقف بينها.
فالعقيدة والشريعة المنزّلة ليس ملْكاً لنا، فالضغط الذي نراه اليوم قد يزول في ساعة، وأما الشريعة التي نرميها فلن تعود في قرن أو قرنين فدفع الشيء أولى من رفعه، والدول التي استجابت لضغوطِ تعري المرأة وحريتها في اللباس تعرت في عام أو عامين ولو أرادت العودة فلن تستتر كما كانت عليه في مائة عام.
يجب على كل مسئولٍ أن يستشعر أن قضايا الفكر والتشريعات والنُظم تختلف عن الممارسات الفردية في قدر الاستجابة للضغوط، فالمسئول مؤتمن على الفكر والتشريع أمام كل جيل يأتي بعده، أن يُسلِّمه له تاماً فالله يقول: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فشهادته صلى الله عليه وسلم على كل الأجيال في ضبط تشريعهم، وأما الأفعال والانقياد فكل نفس بما كسبت رهينة، لأن أفعالهم وقتية وعينية.
يجب على كل مسئولٍ تحمّل ضغط البداية، فهو هو نفس ضغط النهاية، ودفع الحجر الأول من رأس هرم الشريعة = هو نفس دفع آخر حجر من أوسطه وآخره بذات القوة؛ فحافظ على الحجر الأول وأنت عزيز، قبل أن يزول آخر حجر وأنت ذليل، فلو استحللنا الزنا فسيكون الضغط على اللواط بنفس المقدار الذي نراه اليوم على الاختلاط والخلوة والحجاب، فهم يعلمون أن بحث الزنا وحليّته لا يستقيم في بلد يمنع الاختلاط، فيبدئون من أعلا الهرم، وهكذا تقول سياسة الهدم، وسيخلو موضع أول حجر فينتقل نظرهم إلى ما تحته .. وهكذا، فإن كنت على قناعة بزوال ما تحته مهما تسلسل فاستجب للإزالة الأولى، وإلا فلا تظلم جيلًا يأتي بعدك عبَّدت الطريق إليه بإزالة حجر سابق لينهزم فيُزيل اللاحق وهكذا كُلُّ جيل .
والشريعة واحدة والأجيال متعددة كلٌ يُسْقط حجراً منها بحجة أنه تنازل عن شيء ليحفظ أشياء، حتى تزول الشريعة الواحدة بأيدي أجيال متعددة، ولكن العالم كالنجم يرعى الشريعة اليوم لزمنه وأزمنة غيره، وأما المصالح الفردية والزمنية فلا يراها مُسوغاً لنقض دستور أمة، وأما قضايا الأفراد والتماس الرخص لهم والتيسير عليهم في أفعالهم فهو أرحم الخلق بهم.
ونقض النظم الثابتة المُحكمة العامة يلزم معه التسلسل، وتاريخ الغرب في داخله شاهدٌ أنه بدأ بشيء وانتهى بشيء مع تسلسل الأجيال .
والله قد بين أنهم في حال قدرتهم لن تنتهي مطالبهم إلا بالانسلاخ التام من الإسلام : {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ}.
إن الغرب حينما يطلب منا انصاف المرأة، لديه مفهوم غير ما يُصوَّر لنا، وكثيراً ما تُثير منظمات وسياسات (وهي تُبيح زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة) على مسئولينا حقوق المرأة فيخجلون، وليتهم قالوا: ميِّزوا الأنثى من الذكر لنا حتى نُنصفها منه .
{واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
قيّض الله لهذه البلاد عيناً حارسة في الدين والدنيا وألّف بين الحاكم والمحكوم على الخير والهدى، وإن أُريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.
عبدالعزيز الطريفي
2\11\1432 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق