الأحد، أكتوبر 02، 2011

جامعة الملك سعود.. تركيب المرايا


 
عبد الله محمد الغذامي
كان العام 1971 وقت ظهور إعلان على التلفزيون البريطاني يحث السائقين على استخدام المرايا أثناء قيادتهم السيارة، ويدعوهم إلى النظر خلفهم وإلى جوانبهم باستمرار، ويركِّز على جُمْلة تحث على استخدام المرايا هي: (المرايا.. استخدمها..)؛ وذلك للحصول على قيادة سليمة وآمنة للسائق وللأمن الاجتماعي بعامة. كنت أستمتع بمشاهدة الإعلان؛ ذاك لجمال إخراجه ومهارة العرض والتقديم فيه، لكنني لم أكن مهتماً حقيقة بقضية القيادة؛ لأنني كنتُ أستعمل أقدامي في بريطانيا، وأحياناً أستخدم المواصلات العامة. أما بلدنا في ذلك الوقت فلم تكن الشوارع فيه مزدحمة، ولم تكن فكرة قيادة السيارة في شوارعنا تحمل إشكالاً كبيراً؛ لذا صار الإعلان عندي مادة للمشاهَدَة الممتعة لا أكثر. ولكنني حينما عدتُ إلى بلدي عام 1389 (1978) كان من أول ما فعلته شراء سيارة. كنت أسوقها بخوف شديد؛ لانقطاعي عن قيادة السيارات سبع سنوات، هي مدة بعثتي في بريطانيا، وكان أن ذهبت إلى مكة المكرمة بعائلتي الصغيرة جداً حينها للعمرة ولزيارة الأقارب، وفي عودتي من مكة ليلاً، وفي الخط القديم بين مكة وجدة، كنتُ أسير مركِّزاً نظري للأمام خشية أن أجنح عن مساري نحو جدة وأنحرف إلى غيره. وفي لحظة هممت بالتحول من المسار الأوسط إلى يمين الخط، وهاأنذا أتذكر تلك اللحظة ويدي ترتجف من استدعاء صورة الموقف ذاك؛ إذ إنني وبتدبير من الله التفت إلى المرآة الجانبية وما كنت سأفعل وليس من تدريبي الفني أن أهتم بهذا، ولكن الله قادني إلى ذلك دون تدبير مني وعندها لمحت سيارة مقبلة بسرعة هائلة عن يميني؛ فحرفت المقود بسرعة لأبقى في الوسط، ومرت السيارة من يميني ولها وحيف عاصف كان سيلتهمني مع عائلتي لولا رعاية الله ولطفه. حينها صرخت بأعلى صوتي: MIRRORS USE THEM .

(المرايا.. المرايا.. استخدمها). وكم تعجبتْ زوجتي وهالها ما بدر مني وما عصف بنا؛ لذا رحتُ أتأمل معها سبب حضور تلك الجُمْلة في تلك اللحظة، وهو حضور جنوني، ويكاد يكون مسرحياً، والعبارة هذه هي الجملة المركزية في ذلك الإعلان الذي عاد إلى ذهني بعد سبع سنوات من سماعي له، ولكنه عاد هذه المرة لا ليكون متعة تلفزيونية وإنما ليكون جملة ثقافية لها بُعد مجازي عميق صاحبني حتى اليوم.هذه قصة واقعية، ولن نغفل عن بُعدها المجازي والرمزي؛ وذلك أننا إذا كنا نقود السيارة فإن الكون أمامنا، ونسير إليه مسرعين ومنشغلين به، ولكن هناك أكواناً خلفنا تلاحقنا، والخطر دائماً خلفك أكثر مما في أمامك. نحن لنا عيون، من خصائصها الثابتة أنها لا ترى ما خلفها، وليست ترى إلا ما هو أمامها، والحكماء فقط هم مَنْ تعلموا أن يبتكروا عيوناً أخرى ترى من يمين ومن يسار ومن خلف، تماماً مثل مرايا السيارة، وإذا أهمل المرء هذه المرايا عرَّض نفسه وعرَّض غيره لخطر عظيم، ويسمى في مصطلح المرور بأنه (سائق خطر)، وكلنا سائق خطر، ليس لسياراتنا فحسب ولكن لغرائزنا ولعواطفنا ولقراراتنا ولأفكارنا (قلت لقراراتنا ولأفكارنا، وهذا ما يخص جامعة الملك سعود، كما سنرى لاحقاً).أقول إن كل واحد منا سائق خطر لنفسه ولغيره، ونحن في خيار بين أن نستعمل المرايا، أو أن نكتفي بعيوننا، والعين ترى للأمام فقط مثلها مثل زجاج السيارة الأمامي، ولكن السيارة بمرايا، أما الإنسان....!!للإنسان حِيَل كثيرة لصناعة عيون إضافية له، أي تركيب مرايا تساعده على الرؤية بالاتجاهات الأربعة، وفي المقابل فإن له قدرة على الإصرار على أن عينيه تكفيانه، وسيزعم هنا أن النظر إلى الأمام والتركيز على ذلك هو الطموح وهو المستقبل وهو الإرادة العليا، ومن ثم يكون التلفت للخلف أو للجوانب هو مشروع في الإعاقة وتعطيل المسيرة؛ لذا ابتكرت الثقافة عبارة (صرف الأنظار)؛ فيصرف المرء نظره عن كل شيء يخالف غريزته المتطلعة للأمام.هذا هو الظن الأولي الذي يوحي لصاحبه بأنه على صواب، وأن صوابه لا تعتريه الظنون، وأنه ليس بحاجة إلى النظر خلفه. ولقد فعلت بريطانيا العظمى ذلك، وكانت بسببه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فجاءها جون أوزبورن، وكتب مسرحيته الشهيرة والمدوية (انظر خلفك بغضب)؛ ليسجِّل سقوط الإمبراطورية عام 1956، ويجري التحول الثقافي الأكبر في المجتمع البريطاني من بعد تلك المسرحية التي سجّلت لحظة التحول وظهور ثقافة الشباب بكل صورها وصيغها وإطلاق الحكم على نهاية الإمبراطورية وغياب الشمس عن المعنى وعن الرمز؛ وذلك لأن السيدة العظمى نسيت أن تركب مرايا، وغفلت أن تنظر إلى الخلف والجوانب؛ وبذا حدث الغضب على ذلك التاريخ كله، وصار تاريخاً في الاستعمار، وليس تاريخاً في الحضارة، وصار مخجلاً على المعنى الثقافي والأخلاقي والفلسفي.تلك كانت بريطانيا منذ زمن فكتوريا، أول من تسمت بالإمبراطورة بمنحة من رئيس وزراء منافق ومتغطرس هو ديزريلي؛ حيث منح عمته ذلك اللقب؛ ليفرح قلبها بدلاً من أن يهديها مرآة تتبصر عبرها ما لا تراه عينها المجردة.لقد تحولت الثقافة البريطانية كلها لتدخل في خطاب من النقد الأخلاقي والفلسفي لزمن تجاهل المرايا، وحصر نفسه بلعبة الوهم تحت مظنة المستقبل والكون الذي لا تغيب عنه الشمس؛ ولذا غابت عنه الشموس كلها، وغاب عنه الرضا عن الماضي، وصار ينظر خلفه بغضب.إذا لم ننظر خلفنا وعن جوانبنا ونحن نقود السيارة فستعصف بنا عاصفة تزيلنا وتزيل آخرين معنا ليس لهم ذنب، وسيكونون ضحايا لنشوة الواحد منا بنفسه وبعمله، والغريزة البشرية ميالة بالضرورة نحو الأمام، ولكنها لا تدرك أن المحيط الكوني دائري وكروي، وكل ما هو أمام هو في الوقت ذاته خلف، وهو جنب، ولست أنت سوى حبة تطير مع الريح، ولكنك إذا ركبت المرايا فسترى أن لك موقعاً في هذا الأفق، وعليك تثبيته مثلما تفعل (ناسا) في شغلها على منصات الانطلاق وعلى المركبة وعلى الرواد، قبل أن تنطلق إلى الفضاء، وهي لا تفعل هذا إلا بعد أن ترسم خط الرجعة وتتأكد منه.هذه واحدة من المرايا عرفها الحكيم عمرو بن العاص حينما سألوه عن سر دهائه وتميزه عن غيره فأجاب: "لأنني لا أدخل مدخلاً إلا بعد أن أعرف المخرج منه".هذا ما يقوله ابن العاص، وفئة من يسمى الحكماء، وهم قلة قليلة في التواريخ كلها وفي البيئات كلها، وفي مقابلهم هناك أكثرية لا أول لها ولا آخر، ترى أن الطموح هو الانطلاق بأعلى سرعة دون الالتفات، و(اضربها عوجا تجيك عدله)، ولن ينقصهم استذكار أمثلة لا تحصى على نجاح هذه الفكرة، وهذه العينة تقنع نفسها بصوابها عبر عدم الإصغاء لغيرها، ووصف كل رأي مغاير بأنه رأي مثبط. وهنا تأبى تركيب المرايا.جامعة الملك سعود هي مركبة مثل السيارة، لها زجاج أمامي عريض ونافذ، ويعطي رؤية أمامية عريضة جداً، ولها سائق يقود هذه السيارة، ومن حوله مرايا فيها إمكانيات كبيرة، فهل تراه سيقول: MIRRORS USE THEM . يبدو لي حتى الآن أنه قد ترك هذه المرايا لي؛ لذا فسأحاول أن أركبها على عربة الجامعة، وسأمسح عنها الغبار، وكما نفعتني في طريق مكة القديم، وحمتني بعناية من الله؛ فلم تلتهمني سيارة عاصفة من خلفي، فإني على أمل من الله بأن تتكرر نعمته علي وعلى الجامعة؛ فنستعمل المرايا لحماية جامعتنا من بين يديها ومن خلفها.وفي مقالات قادمة تأتي تباعاً إن شاء الله سأحاول تركيب هذه المرايا على مشهد من الجميع.

 

ليست هناك تعليقات: