الأحد، أكتوبر 02، 2011

" اعصفي يارياح"



محمود بن محمد شاكر
وكأن قصيدة محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ) والمعنونة
بمطلعها العاصف " اعصفي يارياح" يخاطب بها القضاة الذين
يرمون هذه الأيام على مايقدمونه من عدالة خدمة للدين ثم المليك والوطن


1297161720







اعصفي يا رياح من حيثما شئت.. وعفِّي الطلول والآثارا

وانسفي يا رياح آية هذا الليل حتى يحور ليلا سِرارا

وازأري يا رياح في حرم الدهر زئيرا يزلزل الأعمارا

اعصفي.. وانسفي.. كأنك سُخّرت خبالا يساور الأعمارا

اعصفي.. وازأري.. كأنك غيرى قذفت حقدها شَرارا ونارا

اعصفي كالجنون في عقل صبٍّ هتك الغيظُ عزمه والوقارا


اعصفي كالشكوك في مهجة الأعمى تخاطفن حسه حيث سارا

اعصفي كالفناء ينتسف الأوكار نسفا ويصرع الأطيارا

اعصفي كالوفاء صادمه الغدر ..فأغضى إغضاءة، ثم ثارا

اعصفي كالضلال يسخر من هاد أذل القفار علما، وحارا

اعصفي كالأسى أفاق من الصبر فلم يستطع قرارا، وفارا

اعصفي وانسفي، فما أنت إلا نعمة تنشئ الخراب اقتدارا

عالَم لم يكن ولا الساكنوه غير أشباح نقمةٍ تتبارى !

* * *

اعصفي يا رياح غضبى بإعصار من المقت، جاحما هدّارا

كيف أبصرتِ ما طويت من الدنيا بليل، وما اخترقتِ نهارا؟!

اشهدي: هل رأيت عقلا ونبلا، أم جنونا يؤم خزيا وعارا؟

وخفايا من الخبائث تسعى، وحُقودا من الخنى تتمارى

وأساطير حية ألبستها قَينةُ الدهر ثوبها المستعارا

وأباطيل دلستها أكاذيب، فأضحت هدًى وأمست منارا

ومطايا تخوض في لجج الظلم بركب لا يسأمون السِّفارا

وأذلاء يشمخون من الكبر وهم في القيود حسرى أسارى!

ودُمًى لم تزل تسير اضطرارا.. في غرور ينفي المسير اضطرارا

وبقايا فرائس لم تكد تنبض حتى أحدَّت الأظفارا!

ودنايا تختال في زخرف البطش.. تخال الأقدارا منها غيارى!

في حياة مخبولة أسكرتها شهوات تبقى.. وتُفنى السُّكارى

كل شيء مسته يطغى.. فلا يزهد طبعا، ولا يعف اختيارا

* * *

اذكري يا رياح كيف تدسَّستِ إلى مضمر الطوايا اقتسارا

كنت سر الأحياء طُرّا.. فما يملك سرّ عن ناظريك استتارا

منذ جاشت في حمأة الكون آمال تُرجّى أن تبلغ الأوطارا

مذ تهادت غرائب الْمُزن تختال وتهدي الظِّلال والأمطارا

منذ باحت بسرها الزهرة الأولى فأذكت في كل قلب أوارا

مذ تسامت في مسبح الجو فتخاء ودارت بلهوها حيث دارا

منذ ناحت بشجوها ذات طوق، فاستجاشت بنحوها الأسحارا

منذ حنّت في ظلمة الليل حيرى قد أضلت أترابها والديارا

منذ أوفى على البقاع أبونا الشيخ حيران لا يطيق اصطبارا

مذ ألمت بأمنا نفحة الأنثى فأغرت بشيخنا الأخطارا

مذ أصاخت لك البرايا خشوعا.. فضّ فيهم حنينك الأسرارا

اذكري كيف.. وانظري كيف أضحوا: أعِبَادا رأيت أم فجارا؟!

يتباغون قدرة ليس تفنى، ثم يَفنَون .. عاجزين حيارى!

* * *

أنصتي يا رياح، صرخةُ ملهوف طعين أفنى الليالي انتظارا

هام يستنفض الغيوب وحيدا.. داميات جراحه لا تُوارى

كلما ظن في دواء شفاء، عاد داءً يدمي جراحا عذارى

أفرارا من الجراح تُداويهن؟ كلا! أيقنت أن لا فرارا

سر جريحا رثًّا بآلامك الظمأى، وسائل.. إن استطعت حوارا!

غرق العالمون في عَيْلم النور فأطفا جِهارَهم والسِّرارا

شَرِقوا شرقة بما حصّلوه، ذَبحت علمهم فغاروا وغارا

أين؟ لا أين! يا رياح أجيبي، مزّقي الْحُجْب وانزعي الأستارا

مَن مجيب إلاك، كاهنةَ الآباد، في هيكل تقادم دارا؟

شاد عُباده المحاريب إيمانًا، فملوا فأعرضوا كفارا

سكروا فانتشوا، فهبوا يزفون إلى هيكل البقاء البوارا

أخُلودًا وحكمة، أم ظلالاً وأحاديث تُضحك السُّمارا

مارد في الثرى تُقلّص عنه الشمس، يمسي ثرًى.. يطير غبارا

* * *

اسمعي يا رياح، من ذا يناديك وقد أرْخت الدياجي الستارا

مهجة تستغيث في دغَل الآثام قد أطبقتْ عليها شِفارا

قد رماها الجبار بالفزع الأكبر، بالموج طاغيا زخّارا

بلهيب ينساب رهْوا، إذا ما خامر النفسَ أجّ فيها سُعارا

فتنةٌ إثر فتنة إثر أخرى، هدّمتها ودكّت الأسوارا

كيف ترجو النجاة في مأزق ضنك وحيدا لا تستطيع انتصارا

تبتغي ثغرة! وكيف؟! وهل ينفع شيئا؟! يا ضَلّ ذاك اغترارا

أنتِ في حوزة الأثام تعيشين، فذُلاًّ في الرق لا استكبارا

اشربي الكأس مُزّة لم تُشعشع، ثم إياكِ أن تميدي خُمارا

اغدري نافقي أضلي استبدي، خالطي الإثم واحملي الأوزارا

أنتِ للبأس قد خُلقت.. فأين البأس إن كنت تفزعين حذارا؟

هكذا الأرض.. فاذهبي أو أقيمي.. ليس يُغني أن تشمئزي ازورارا

سيدُ الجو والجوارح بازٍ ساقط الطير داميات وطارا

* * *

أنصتي يا رياح.. ما أبشع الصوت! لقد سار في القرون مسارا

أحنينا أم صرخة أم أنينا أم مُكاء أم عَوْلة أم جُؤارا؟!

أم تهاليلَ عاكفين على الأوثان عجوا لها وضجّوا اعتذارا؟!

أم زنوجا توالغوا في الدم المسفوح.. دفّوا وهللوا استبشارا؟!

أم مُسوحا من العواطف تعوي سخَرا من رئائها واحتقارا؟!

أم كشيشَ الشحناء همّت وفخّت وتنزّى لعابها واستطارا؟!

أم صليلَ الأحقاد طاشت عن الكظم فخاضت إلى التشفي الغمارا؟!

أم هزيمَ اللذات في صخب النشوة هاجت زفيرَها الفوّارا؟!

أم وغى السخريات في لغط الآلام تستصرخ الدموع الغزازا؟!

أم عويل المنى البوالي على أجداث همٍّ مضى وأبقى تبارا؟!

أم تسابيح خاشعين من التقوى أسرّوا من خشية إسرارا؟!

أم تكاذيبَ؟!.. بل تكاذيبُ! هل تبصر إلا الهداةَ والأبرارا؟!

قد أرادوا أن يجتنوا ثمر الخيرات حلوا.. فصادفوه مُرارا!!

* * *

انظري يا رياح.. يا وحشة الطرف إذا دار يمنة أو يسارا!

ما الذي تبصرين؟ أشباح فانين؟! مرارا تُرى وتَخفى مرارا

وُجدوا ثم أوجدوا ثم بادوا.. واحتذى نسلُهم فزاد انتشارا

وتمادى البقاء فيهم دواليك.. فشيء بدا.. وشيء توارى!

أوغلوا في الحياة جيلا فجيلاً، وتجلّى طريقهم وأنارا

فمضوا يبدعون في حيث حلوا، وتباروا حضارة وابتكارا

ما كفاهم ما بُلّغوا فاستطالوا.. ثم خالوا، فأسرفوا إصرارا

شُغفوا بالخلود في هذه الدنيا، فأعطتهم الخلود المعارا

عمروا الأرض زينة ومتاعا، ثم نودوا: كفى.. البدار البدارا

ثم مروا.. أشباحَ فانين، ما تملك في حومة الزوال قرارا

لم يكن غير خطفة البرق.. إذ تبني وتُعلي، ولم يكد.. فانهارا

ذهبت ريحهم، وهبّت رياح، فأقامت على القبور الديارا

ضل هذا الإنسان! يكدح للخلد.. وأقصى الخلود: كان.. فصارا

* * *


المفكرة القضائية

ليست هناك تعليقات: